كلمة العدد
ببالغ
الحزن والأسى الجامعة تُوَدِّع رئيسَها الحكيم العالم الصالح
فضيلة
الشيخ مرغوب الرحمن رحمه اللّه وأدخله فسيح جنّاته
في
الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم الأربعاء: غرة محرم 1432هـ الموافق 8/
ديسمبر2010م، استأثرت رحمة الله تعالى بالعالم الصالح الرئيس الحكيم للجامعة
الإسلاميّة دارالعلوم / ديوبند فضيلة الشيخ مرغوب الرحمن رحمه الله تعالى،
فَإِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. كان رحمه الله لدى وفاته في نحو 100
من عمره بالقياس إلى التقويم الهجري وفي 96 من عمره بالنسبة إلى التقويم الميلادي؛
حيث كان من مواليد 1332هـ / 1914م .
وافته المنيةُ في بيته الكائن بحيّ «قاضي واره» بمدينة «بجنور» إحدى المديريات الغربية بولاية «أترابراديش» بالهند. وقد صُلِّي عليه أولاً في مصلى العيد بالمدينة في
نحو الساعة الرابعة والنصف، ثم نُقل جثمانُه إلى «ديوبند» حيث صُلِّي عليه ثانيًا في محيط «مولسري» بالحرم الجامعيّ، وصلّى بالناس عليه نجله الأستاذ أنوار
الرحمن القاسمي، وحَضَرَ الصلاةَ نحو خمسين ألف مسلم مُغْطَمُهم العلماء والصلحاء
والطلاب إلى جانب عامّة المسلمين من أهالي المدينة والمتوافدين من شتى المناطق
القريبة والبعيدة.
وتمّ
دفنُه في المقبرة الجامعيّة المعروفة بـ«المقبرة
القاسمية»
التي تضمّ قبور كبار علماء ومشايخ الجامعة، وعلى رأسهم الإمام محمد قاسم النانوتوي
مؤسس الجامعة (1248-1297هـ = 1832-1880م).
كان
–
رحمه الله – يعاني
منذ سنوات أمراضاً عديدة كان مُعْظَمُها ناشئةً عن الشيخوخة الزائدة والضعف
المُتَوَلِّد منها إلى جانب انكسارات في عظام العجز من زلّته على الأرض؛ ولكنه ظلّ
حاضر الذهن مُتَيَقِّظ الذاكرة حتى آخر لحظة من حياته. وقد أشرف على دورة مجلس
شورى الجامعة المنعقد في الأسبوع الثالث من شعبان 1431هـ ، ثم ارتحل إلى بيته في
الأسبوع الأخير منه، وأصيب في تلك العظام مرة أخرى من زلّة على أرضيّة دورة المياه
في بيته مما زاده ضعفاً على ضعف، وظلّ طريحَ الفراش يتلقّى العلاج، ويمارس حميةً
شديدة، فلا يتناول من الأطعمة إلاّ ما تسمح به الحميةُ، وكان كذلك إذ وافاه
الأَجَل المحتوم.
كان من مُتَخَرِّجي الجامعة وتلاميذ العالم
العامل المجاهد الشيخ السيد حسين أحمد المدني رحمه الله (1295-1377هـ =
1879-1957م) فعليه قرأ عام 1351هـ/1932م بجامعة ديوبند صحيح البخاريّ وجامع
الترمذي كما قرأ على كبار مشايخها الصلحاء دواوين الأحاديث الأخرى، كما نال من
الجامعة «شهادة المفتي» بعد ما قرأ الكتب المقررة لنيل هذه الشهادة طوال عام
دراسيّ كامل، وبايع الشيخَ المدنيَّ في التزكية والإحسان، ولكونه صاحب أراضٍ زراعيّة
واسعة ورثها من والده، لم يتمكن بعد التخرج من الاشتغال بالأعمال العلمية
والتدريسيّة، لأن المهام الزراعية استغرقت وقته؛ ولكنه ظل معنيًّا بالخدمات
الدينية والدعويّة والاجتماعيّة، وظل دائم العلاقة مع الجامعة الإسلامية
دارالعلوم/ ديوبند، حيث ورث هذه العلاقة من سلفه الكرام الذين ظلّوا عاكفين على
خدمتها بشتى الأشكال الماديّة والمعنويّة.
من
ثم عُيِّن عضوًا في مجلس شورى الجامعة عام 1383هـ/1962م، كما عُيِّن رئيسًا
مساعدًا للجامعة في رجب 1401هـ الموافق مايو 1981م، ثم اختير رئيسًا مستقلّاً لها
في شوال 1402هـ الموافق أغسطس 1982م. ومنذ ذلك الوقت ظلّ يرأس الجامعة ويدير
شؤونها في حكمة ورويّة استخرجت له الثناء والدعاء من ألسنة جميع الأساتذة
والمنسوبين والطلاب ومحبّي الجامعة، كما أعانت على تطوّر الجامعة على جميع
المستويات التعليمية والبنائيّة والتمويليّة.
فعلى
مستوى الإنجازات البنائيّة، يرجع إليه الفضل في إنشاء الجامع الكبير داخل الحرم
الجامعيّ باسم «جامع
رشيد»،
الذي يُعَدُّ درّةً يتيمة في الهندسة والبناء ومن أوسع الجوامع في شبه القارة
الهنديّة، والذي هو ثالث المساجد في الحرم الجامعيّ، كما تَمَّ على عهده إنشاء
مبانٍ كثيرة شامخة متينة تجمع بين الجمال الهندسي المعماري الإسلامي التقليديّ
وبين الطراز الحديث للهندسة والبناء، بما فيها مباني السكن الطلابي العديدة ومباني
الفصول الدراسيّة، وخَزَّانا الماء ذوا السعة الكبيرة، ومبنى المكتبة المركزيّة
ذات الأدوار العديدة الذي يكاد بناؤه يتمّ، ومبنى «حكيم
الأمة»
لتحفيظ وتجويد القرآن الكريم ذو الأدوار الثلاثة، ومبنى «شيخ
الإسلام»
ذوالأدوار الثلاثة للسكن الطلابيّ، ومبنى المدرسة الثانوية ذوالأدوار العديدة،
ومبنى «المنزل
الأعظمي»
ذوالأدوار الثلاثة للسكن الطلابي، ومبان عديدة للسكن العائلي للأساتذة والموظفين،
إلى جانب إعادة بناء مبنى سكن طلابي شهير بـ«الدار
الجديدة»
تمّ منه إنجاز نصف المشروع وبقي إنجاز نصفه، وإعادة بناء مبنى «دارالضيافة»
وما إلى ذلك من أعمال البناء الكثيرة الصغيرة والكبيرة، ودع ذكرَ أعمال الإصلاح
والترميم الذي جرى بشكل مستمر في كثير من المباني الجامعيّة القديمة.
وعلى
صعيد الإنجازات التعليميّة، أُنْشِئت –
إلى جانب إدخال التعديلات الإيجابيّة المثمرة على المنهج الدراسيّ العامّ، وتطوير
المسيرة التعليميّة العامّة –
أقسامٌ عديدة، من بينها «قسم
التخصص في الحديث الشريف»
الذي ينال فيه الطلاب الملتحقون به شهادته بعد ما يدرسون مقرراته على مدى عامين
دراسيين متتاليين، وقسم «تكميل
العلوم»
الذي منهجه الدراسي يقتصر على عام دراسي واحد، وقسم صيانة ختم النبوة العالمي،
الذي انبثق من مؤتمر صيانة ختم النبوة العالمي الذي عُقِدَ منذ سنوات في رحاب الجامعة
وحضره كبار العلماء والمفكرين من شتى أقطار العالم ولاسيّما من العالمين العربي
والإسلامي، ومنظمة رابطة المدارس الإسلامية لعموم الهند، وقسم صيانة السنة
النبوية، وقسم الردّ على المسيحيّة، وأكاديمية شيخ الهند التي أصدرت كثيرًا من
المؤلفات العربية والأردية التي يحتاج إليها الجيل المسلم المعاصر، وقسم اللغة
الإنجليزية وآدابها بمنهجه المتكامل الممتد على عامين دراسيين، الذي شَجَّعَ
المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية الأخرى الكثيرة في شبه القارة الهندية على
إحداث مثل هذا القسم لديها، كما أُدْخِلَ تعديلٌ أساسيٌّ فاعلٌ على خطّة سير
الامتحانات في الجامعة؛ حيث حُوِّلت الامتحانات الثلاثة امتحانين نصف سنويّ
وسنويًّا، وكِتَابِيَّيْن مكان أن يكون النصف السنويّ شفويًّا، مما أبقى على
الطلاب الوقتَ وضَمِنَ لهم إتقانَ الأهليّة واستيعابَ المقررات بالدراسة الواعية.
كما
شهدت الجامعة على عهده زيادةً مُطَّرِدةً في عدد الطلاب؛ حيث كان عددهم مقصورًا
على عهد سماحة الشيخ المقرئ محمد طيب / الرئيس السابق للجامعة (1315-1403هـ =
1897-1983م) على 1800 طالبًا، أمّا اليوم فعددُ الطلاب المنتظمين النازلين في
السكن الطلابي الجامعي نحو 4000 أربعة آلاف طالب، وقد زيدت المِنَحُ الدراسيّة
بشكل جدير بالتسجيل، كما تم تطوير وتحسين أنظمة الإسكان والإطعام، وعادت الوجبات
الغدائية والعشائيّة مشتملة على الرزّ المطبوخ مع اللحم الذي يُسَمَّى بالهند بـ«برياني»
الذي يُقَدَّم للطلاب ثلاث مرات في كل شهر، وقد كانت الوجبات خالية من ذلك من ذي
قبل. كما قُدِّم للطلاب تسهيلات سكنيّة أخرى عديدة غير معهودة في السابق.
وبالنسبة إلى النظام التمويلي الشعبيّ
للجامعة، فقد شهدت الجامعة تطورًا ملموسًا مدهشًا؛ حيث كانت ميزانية الجامعة لا
تتجاوز لدى استقالة رئيس الجامعة السابق سماحة الشيخ المقرئ محمد طيب رحمه الله
ستةَ ملايين روبيّة هنديّة، أما اليوم فقد قاربت الميزانيّة 140 مليون روبيّة
(140000000) .
وقد
كان –
رحمه الله –
يتعمّق في النظر في الحسابات، ويُعْمِل توازنًا دقيقًا بين الدخل والخرج، مما لم
يُحْوِج الجامعةَ على عهده الممتد على نحو ثلاثين عامًا إلى الاستدانة أو إلى
إيقاف شيء من مشاريعه البنائية أوالتعليميّة، بل ظلّ الدخل يفيض بعضَ الشيء عن
ميزانيّة الخرج. ذلك لأنّه بدوره كان ذا بصر بالحسابات وطريقة تدقيقها والتوصّل
إلى مظانّ التزوير فيها؛ فكان ربّما يؤاخذ الموظفين المعنيّين ببيسة واحدة كان
يراها قد أُنْفِقَت في غير موضعها أو دونما حاجة إلى إنفاقها.
وكان
كبيرَ الاهتمام بشؤون الجامعة وكثيرَ السهر على مصالحها، جَعَلَها شغلَها الشاغلَ
وهمَّها الوحيدَ، فكان لايُفَكِّر فيها فقط طَوَالَ النهار وحالةَ اليقظة، بل كان
يبدو من سلوكه العامّ أنه يراها في منامه، رغم أنّه لم يكتفِ بأنه لم يقبل منها
راتبًا، وإنما كان يُقَدِّم لها تبرعات سخيّة عنييّة ونقديّة وبشكل الحبوب؛ بل كان
يُقَدِّم أجرةَ الغرفة التي كان يسكنها، ومقابلَ البترول إذا استخدم سيارةَ
الجامعة، وكان لايستفيد منها بشكل إلاّ كان يقدم معاوضةً عن الفائدة التي كان
ينالها، وكان يعيش في الجامعة مُوَفِّرًا كل التسهيلات التي كان يحتاج إليها من
عنده، من الطعام والدواء والعلاج والكهرباء والمراوح والمبردات والثلاّجة وما إلى
ذلك من الحوائج اللازمة اليوميّة، حتى كان يُنْفِق على الضيوف من عنده إلاّ يكونوا
ضيوفاً رسميّين.
ورغم
أنّ الجامعة تحظى –
ولله الحمد –
في شبه القارة الهنديّة بشعبيّة لايحظى بها أية مدرسة أو جامعة إسلامية أهلية في
شبه القارة الهندية كلها. وذلك لإخلاص مؤسسيها
والقائمين عليها وصلاحهم وتقواهم؛ حيث كانوا في ذلك على سيرة السلف الصالحين
الكرام؛ ولكنها رغم ذلك لاتزال غير معروفة في العالم العربي على مستوى مطلوب؛ لأن
ذلك يحتاج إلى دعايات مكثفة بالخدمات والإنجازات، الأمر الذي لاتؤمن به الجامعة،
ولاتعرف أسلوبها؛ لأنها تعوّدت فقط العملَ في صمت وإخلاص واحتراز كامل من الدعاية
والإعلام؛ ولكن أبناء العصر لايعترفون إلاّ بأهميّة المدارس والجامعات، والمؤسسات
والمنظمات التي تعتمد فقط على الدعاية والإعلام، فلا تعمل، أو تعمل قليلاً جدًّا؛
ولكنها تصيح كثيرًا، وتُطَبِّل بأنّها هي وحدها التي تعمل، وتضحي في سبيل الدين
والدعوة، ولولاها لما كان للإسلام اسم أو رسم في هذه القارة الهنديّة الهائلة.
وكان
–
رحمه الله –
رغم صلاحه و ورعه وتقواه وإخلاصه وانصرافه إلى الذكر والعبادة وعزوفه عن التعرف
والدعاية، يدرك هذه الحقيقةَ؛ فكان يرى أن يكون هناك تواصل مع العالم ولاسيّما
العالم العربيّ؛ فكان يُشَجِّع الأساتذة على الرحلة إليه، إذا وُجِّهت إليهم دعوةٌ
لحضور مؤتمر أو مناسبة علمية أو دعويّة أو ثقافيّة. كما كان يهتمّ عندما كان
متمتعًا بصحة جيدة بتوجيه خطابات التهنئة إلى سفارات البلاد العربية بالمناسبات
الإسلاميّة من حلول رمضان المبارك وعيد الفطر وعيد الأضحى، ومناسبات أيّامها
الوطنيّة. كما كان يحرص على استضافة كبار العلماء والمفكرين العرب والاحتفاء بهم
لدى زيارتهم للجامعة أو لدى نيتهم لزيارتها، فكان يُعْنَى بتوجيه الدعوة إليهم؛
وإيفادهم وإنزالهم في دارالضيافة، وإقامة مآدب على شرفهم، يدعو لها كبار الأساتذة
والمسؤولين بالجامعة، ويقيم حفلات الترحيب احتفاءً بهم وإكرامًا لهم. ورغم أنه كان
قليل الكلام حتى بلغته الأردية، فضلاً عن العربيّة، فكان لايتحدّث معهم، وإنما كان
يتحدث معهم بلسانه بعض الأساتذة المتقنين للعربيّة؛ لكن جميع الضيوف الذين زاروا
الجامعة على عهده، عادوا بانطباعات جيدة جدًّا عنه وعن الجامعة معًا؛ لأن صلاحه
وتقواه جعلاهم يتأثرون من تديّنه وصمته وإخلاصه في إدارة مثل هذه الجامعة العريقة
الكبيرة التي طبقت شهرتُه الآفاقَ؛ فكانوا يتعجبون أن مثله كيف يدير مثل هذه
الجامعة الكبيرة الشهيرة في سذاجته وبساطته في العيش وعزوفه عن الصيت.
ورغم
ضعفه الناشئ عن الشيخوخة الزائدة، عندما وُجِّهت إليه الدعوة للحج والزيارة على
نفقة خادم الحرمين الشريفين، ووُجِّهت إليه الدعوة من قبل رابطة العالم الإسلام
بمكة المكرمة على عهد أمينها العامّ الحاليّ معالي الدكتور عبد الله عبد المحسن
التركي الموقر/ حفظه الله للحضور في بعض مؤتمراتها العالميّة الهامّة، سافر إلى
الحرمين الشريفين على تشجيع من الأساتذة برُفْقة نجله الأخ الأستاذ أنوار الرحمن
القاسميّ/ حظفه الله. وذلك حرصاً منه على زيارة الحرمين وأداء الحج والعمرة وعلى
التواصل مع المملكة وعلمائها ومشايخها ومثقفيها. ولاغرو فقد كان بعضُ أبناء هذه
الجامعة سَبَّاقين إلى نشر نورالعلم والمعرفة في ديار الحرمين الشريفين، حيث سَعِد
العالم المجاهد الشيخ السيد حسين أحمد المدني رحمه الله بتدريس الحديث الشريف في
الحرم المدني أكثر من عقد، وَحَضَرَ دروسَه كبارُ العلماء في العالم، بمن فيهم
الشيخ ابن باديس الجزائري (عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي ابن باديس
1305-1359هـ = 1887-1940م) والشيخ بَشير الإبراهيميّ الجزائري (محمد بن بشير بن
عمر الإبراهيمي 1306-1385هـ = 1889-1965م)، ومنه تلقيا درس النضال ضد الاستعمار
الفرنسيّ، فحارباه وعملا على جلائه من هذا البلد العربي الإسلامي الصميم. وشقيقُه – الشيخ السيد
حسين أحمد المدني رحمه الله –
الأكبر الشيخ السيد أحمد الفيض آبادي (1293-1385هـ = 1875-1939م) هو الذي أسس عام
1340هـ «المدرسة
الشرعية» لدى باب جبريل للحرم المدني، التي تخرج
منها كبار العلماء والفقهاء والقضاة والأدباء في السعوديّة بمن فيهم الأديب الكبير
الشيخ عبد القدوس الأنصاريّ رحمه الله (1324-1403هـ = 1906-1983م) مؤسس مجلة
«المنهل» التي لاتزال تصدر في جدة.
ولكن الجيل الجديد لايعرف ذلك كلَّه، فلا
يعرف فضلَ هذه الجامعة وعلاقتها العريقة الوطيدة المشرفة مع المملكة الرشيدة. وقد
شَهِدَت الجامعةُ لأسباب كثيرة تقدمًا ملموسًا على عهده رحمه الله في شأن التعريف
ببعض فضل هذه الجامعة لدى العلماء العرب.
وعلى
الرغم من كونه صامتًا بطبعه، كان يردّ على أسئلة رجال الصحافة والإعلام
ومُمَثِّلِي القنوات التلفازيّة (الذين يتوافدون إلى الجامعة بكثرة بصفتها أعرق
وأكبر جامعة إسلامية أهلية في شبه القارة الهندية) حول القضايا الإسلاميّة
والقضايا العالميّة بفقرات متزنة تشفّ عن ثقوب نظره وبصره بحقائق الأمور وجذور
القضايا ومصادر المشكلات، وعن اطّلاعه على التطورات الأخيرة في القضايا، والحديث
الأحدث من الأنباء، كما كانت تعكس مدى تألّمه لحال الأمة الإسلاميّة، وهوانها على
الأعداء المتربصين بها من الصهاينة والصليبيين والمشركين. وكان يحرص على قراءة
الصحف اليوميّة ليطّلع على كل ما يتعرض له المسلمون في الهند وفي العالم كله. وكان
كاتبُ هذه السطور كلما يزوره في غرفته في الصباح يجده يقرأ الصحف ممسكاً بأوراقها
المفتوحه بيديه، وما إن كان يُسَلِّم عليه، ويجلس إليه حتى يلقي الصحف جانبًا،
ويتحادث ويتبادل معه الرأيَ حول المُسْتَجِدَّات، ويُقَلِّب الأنباءَ الواردة على
جوانب؛ ليتوصّل إلى أبعاد القضايا.
وأتذكّر
أنه عندما غزا الرئيس العراقي صدام حسين –
رحمه الله وغفر زلاّته وعفا عن سيئاته التي ارتكبها في شأن نفسه وشأن بلده وشأن
شعبه وشأن أمّته –
وتسبّب في تدخلّ أمريكا العسكريّ في العالم العربي واتخاذها قواعد عسكريّة في عدد
من البلاد العربية، وتحقيقها لمُخطَّطَاتها الصليبيّة الصهيونيّة، كنتُ أيّامئذ
مصابًا بحرج عميق في عقب إحدى رِجْلَيَّ، وأبطأ عليّ برؤه لكوني مصابًا بداء
السكري، وذات يوم زارني يعودني –
رحمه الله –
عندما كادت أمريكا تنقضّ على القوات العراقيّة بحجة تحرير الكويت، في سَكَنِي
العائليّ الجامعيّ المعروف بـ«أفريقي منزل قديم» الكائن بجوار «مسجد تشته» الأثري
المعروف، وبعد تناول الشأي جرى تبادلُ الرأي حول التطورات الأخيرة الخطيرة، فقال – رحمه الله –
الآن عاد الشعب المسلم كلُّه واقفًا بجانب صدام حسين، قلتُ: وأين أنتم من ذلك؟
فاكتفى كالعادة ببسمة عميقة طويلة على شفتيه؛ لكن أسارير وجهه كانت تشفّ عن أنه
مُرْتَاح إلى رأيي الذي كان يعلم به من ذي قبل.
كان –
رحمه الله – يعلم أني أخالف صدام مثل كثير من العلماء والمفكرين
المطلعين على حقيقة الحال، وجذور الموقف، وممكن الداء في القضيّة، في غزوه للكويت،
وإصراره على عدم الخروج منها، وإعلانه باتخاذها محافظة من محافظات العراق،
وتحدِّيه لأمريكا بأنّه سيُفْنِيها للأبد إذا تصادمت معه لتحرير الكويت؛ لأنه بذلك
كله أتاح لأمريكا بالتدخل العكسريّ الدائم في العالم العربي، وتدمير العراق،
وبالتالي تدمير البلاد العربيّة كلها، واستعباد الأمة العربيّة بشكل أقوى وأفعل من
ذي قبل. وقد أخطأ حينما غزا الكويت وثبت فيها، ويخطئ مرة أخرى عندما يصرّ على عدم
الخروج منها، ويتحدّى بدون إعداد عسكريّ لائق القوةَ العسكريّةَ العظمى في العالم.
وارتاح
–
رحمه الله –
إلى ما قلتُ؛ ولكنّه لم ينبس ببنت شَفَةٍ. ونهض ليقوم من عندي، قائلاً: إنيّ والله
أستشعر خطرًا كبيرًا على كلّ من صدام حسين والعراق والكويت والمملكة السعودية وعلى
كلّ البلاد العربية. إن أمريكا خبيثة النيّة، وسَيِّئَةُ الطويّة. إنّها بسبيل
تنفيذ مشاريع صهيونية صادرة عن روحها الصليبية وإن القادة العرب والمسلمين
بحماقاتهم يُتِيحون لها الفرصةَ لتنفيذها، رَحِمَ الله الأمة الإسلاميّة،
وأَدْرَكَها قبل فوات الأوان.
وقد كان –
رحمه الله –
يعدّ أمريكا إرهابيّة رقم واحد، بل مَصْدَرَ الإرهاب، وأعلن ذلك عبر وسائل الإعلام
التي نشرت تصريحاته بهذا الشأن على نطاق واسع، واشتهرت كثيرًا، وتناقلته وسائل
الإعلام العالميّة والأجنبيّة.
وكان
رحمه الله –
خبيرًا جدًّا بالحياة وبالناس، وبصيرًا بمؤهلات من يحتكّون بهم من الأساتذة
والمنسوبين في الجامعة، ويعامل كلاًّ منهم صادرًا عن معرفتهم العميقة بهم؛ فكان
يُنْزِل كُلاًّ منهم منزلاً يليق به، وعن هذه المعرفة يصدر في احترام الكلّ،
وإعطائه من التقدير والعطف والاهتمام ما يستحقّه، وإن كان يحبّ الجميع صدورًا عن
خلقه المعجون بالتواضع وحبّ الناس على اختلاف مؤهلاتهم وتوجّهاتهم؛ فلم يَشْكُ
أيٌّ من الأساتذة والمنسوبين والموظفين في الجامعة قطُّ أيَّ سلوك منه آذاه بشكل،
بل ظلّ الجميع يحسبون أنّه يحبّهم جميعًا حبًّا مساويًا أو حبًّا أكثر من حبه
للجميع.
وكان
كاتبُ السطور أيضًا يظنّ أنّه يحبه أكثر من غيره؛ لأنه كان يغمره دائمًا بغاية من
العطف واللطف والحبّ، فكلما كان يدخل عليه في مكتبه بالجامعة أو في غرفته التي كان
يسكنها، كان يلتفت إليه بكل كيانه، وربما كان يكون مشغولاً ببعض الأعمال الهامّة
أو بقراءة الصحف أو بالتشاور مع المعنيّين من الأساتذة والموظفين؛ ولكنه كان ينصرف
عن ذلك إليه، ويستخبره عن أحواله، ويتبادل معه الرأي فيما يشاء من الأنباء الأخيرة
الطازجة والأوضاع الحاضرة.
وكان
–
رحمه الله –
يعوده عندما كان يتمتع بصحة جيدة وكان يقدر على المشي والتحرك كثيرًا، في مسكنه
العائليّ عندما كان يعلم بأنه مصاب بَوْعكَة صحيّة أو بجرح في الرجل كثيرًا ما كان
يصاب به من أجل داء السكريّ .
وبما أنّه كان قد طُبِـعَ على خزن لسانه،
فكان لاينطق إلاّ لدى حاجة مُلِحَّة للغاية، وكان يكتفي في الحديث بقدر الحاجة،
فربّما وجدنا بعض الناس يشكون أن فضيلة الرئيس لايشكر أحدًا على أيّ إنجاز مهما
كان كبيرًا، ولايبدي إعجابَه به، ولا ينبس بكلمةِ ثناء تجاه أيّ من الناس مهما
أجاد وأفاد وصنع ما يدعو للمدح والتشجيع. وكان كاتبُ هذه السطور يردّ عليهم بقوله:
إن فضيلة الرئيس مطبوعٌ على قلة الكلام؛ ولكن أسارير وجهه تشرق لدى السرور
والإعجاب بأحد، ويكتفي ببسمة إيجابيّة تتبدّى على شفتيه. وذلك هو عادته لدى كل
موقف يدعو لإبداء الإعجاب وكلمة الاستحسان، إنّ فرحته القلبيّة تظهر على وجهه؛
ولكنّها لاتظهر على لسانه، ومنطقُ القلب وحديثُ ملامح الوجه هو الأصل؛ لأنه أبلغ،
ومن لايتكلم كثيرًا يدعو كثيرًا. والدليلُ على ذلك أنه كان لايتناول أحدًا بالزجر
والملام حتى في المواقف التي كانت تدعو لزجره وملامه.
وزعم شيخوخته الزائدة كان لايثور ولايغضب
ولايفقد صبرَه، على حين إن العجائز الطاعنين في السنّ هُوِيَّتُهم هو الثوران
والغضب وفقد الصبر عاجلاً. كان – رحمه الله – حليمًا كريمًا، متواضعًا صبورًا حتى في أحرج الساعات وأصعب
المواقف. وكان ذلك مما يُمَيِّزه عن غيره من الأقران من العلماء. إنّ الصبر
والاحتمال كان قيمةً كبيرة من القيم التي كان يتمتّع بها، إنّه بها حَقَّقَ
الانتصارَ في كثير من معارك الحياة. بعضُ الناس كانوا يحسدون مكانَتَه فكتبوا
ضدَّه أمرَّ الكتابات وقالوا ضده ألدغ المقالات؛ ولكنه لم يردّ عليهم بشيء، وقد
كان بعضُ محبيه يغضبون على حاسديه هؤلاء جدًّا؛ ولكنه بدوره لم يغضب عليهم؛ لأنه
لم يُخْلَق ليثأر لنفسه، إنّه ظلّ هادئًا حتى في المواقف العصيبة التي يهج فيها
كثيرٌ من الناس عادةً، كان يؤمن بتصحيح الصلة بربّه، وأمّا ما بينه بين الناس فكان
يُفَوِّضه إلى الله عزّ وجلّ .
بهدوئه
في مواقف الحياة، وتأنّيه في كلّ الأمور، كان لايستعجل في اتخاذ قرار فيما يتعلق
بشؤون الجامعة أيضًا؛ لأنّه كان يجتنب كلَّ الاجتناب العاطفيّةَ والاستعجالَ
والتهوُّرَ، فكان لايصدر في شأن من الشؤون عن التأثّر الإيجابي أو السلبيّ الناشئ
عن غاية السرور أو غاية الحزن. إنّه كان يَدَعُ الرأيَ يختمر وينضج، مثلما نصنع في
الإكثار من طبخ الشيء الذي لاينضج عاجلاً. من ثم كانت قراراته صائبة جدًّا، فكان
لايندم على شيء صنعه في حياته؛ لأنه كان يصنعه بعد إعمال رويّة وتفكير.
إنّه
عُمِّرَ طويلاً بحكمة الله الذي أراد أن يُوَفِّقه لخدمة الدين والعلم؛ ولكن كاتب
السطور يعتقد أنّ طولَ عمره يرجع بعد حكمة الله وفضله إلى أنّه كان يتمتع بالأناة
والاحتمال والصبر، وكانت لا تنهار قواه المعنوية حتى في أشدّ الأوقات وأحرج
المواقف.
إلى جانب ذلك كلّه كان – رحمه الله – مِضْيَافًا،
والمِضْيَافُ في المُجْتَمع الإنسانيّ ليس نادرًا إن لم يكن مُطَّرِدًا؛ لكن الذي
يُمَيِّز المضيافَ عن المِضْيَاف هو التقيد بآداب الضيافة وقيمها التي تجعل الضيوف
يحسبون أنهم في راحة أكبر من الراحة التي يجدونها لدى الأهل في بيوتهم ومساقط
رؤوسهم. وكان – رحمه الله – اجتمع له من
الوسائل ما جَعَلَه يحوز به جميعَ الخصائص التي تجعل مضيافًا ما ممتازًا عن غيره،
من كونه وَرِثَ الثراء عن آبائه، وامتلك أراضي زراعيّة واسعة، وجَمَعَ النسب
الطينيَّ العاليَ؛ حيث كان يرجع نسبه إلى سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، إلى
كونه عُجِنَتْ طينته بالحلم والكرم، وكونه يتمتع بالعمل بالتقاليد والسماحة
والمروءة ورحابة الصدر، ويَجْمُلُ بعلوّ الهمة وسعة النظر، ويملك وسائل مادّية
تعين على الوفاء بمُقْتَضَيَات الاستضافة، وتدفع إلى الجود والسخاء. وكان قد رآى
آباءه يستضيفون ويعملون بآداب وقيم الاستضافة، فتَعَلَّم منهم ذلك على صعيد العمل؛
فكان الضيوف على مائدته يشعرون كأنهم في جوّ أحسن من الجوّ الذي يجدونهم على موائد
بيوتهم، فكانوا يتناولون ما عليها من المأكولات دونما شعور بالخجل أو التردّد؛ بل
كانوا يتشجّعون على الاكثار من الأكل بشكل أكثر مما كانوا يتشجعون في بيوتهم.
وكانت مائدة الشيخ رحمه الله شهيّة مملوءة بضيوف الأطعمة الكثيرة المقدار، وكثرةُ
الأطعمة بقدر الحاجة مما يفتح شهيَّةَ الضيوف، وقلّةُ الأطعمة قد تُحْرِجهم
وتمنعهم عن التناول، ظنًّا منهم أن المُضِيْفَ ربما ليس لديه من الأطعمة ما يفي
بالحاجة، من ثم اكتفي بالقليل منها. وكان رحمه الله لايكتفى فقط بترغيب الضيوف في
التناول، وإنما كان يضع المأكولات بيديه في أطباقهم، ويلحّ عليهم بأن يأكلوا
المزيدَ، على طريقة العرب الذين هم أساتذة العالم في الاستضافة، كما هم أساتذته في
العلم والفضل، ومكارم الأخلاق وجميع القيم الإنسانية، التي علّمهم الإسلام.
وكانت
مأدبته السنوية للأنبح شهيرة، وكان يقيمها كل سنة في موسم الأنبح في فصل الصيف في
دارالضيافة الجامعيّة الكبيرة، وكان يدعو إليها جميع الأساتذة والمنسوبين
والموظفين وكثيرًا من المسؤولين الحكوميين المقيمين في مدينة ديوبند ومن وجهاء
مدينة ديوبند. وكان الناس ينتظرونها طوالَ العام بفارغ الصبر؛ لأنه – رحمه الله –
كان يجلب لها أنواعًا كثيرة من الأنبح لايجدها الناس بسهولة في سوق المدينة، وكان
بعضها يجلبها من حديقته الخاصة الكائنة بخارج مدينة «بجنور».
وكان
بالنسبة إلى شخصه بسيطاً في المأكل والملبس، زاهدًا في الوسائل، يلبس الأبيض
العاديّ من الثياب في فصل الصيف، وفي فصل الشتاء الرخيصَ من الثياب الصوفيّة، وكان
سكنه في الجامعة بسيطاً لايزوّده بالوسائل الغالية، رغم كونه ثريًّا أبًا عن جدّ.
وكان
محافظاً على الصلاة بالجماعة إلى محافظته على قيام الليل وصلاة التهجّد، وكان دائم
الدعاء والتضرع إلى الله تعالى، ويواظب على صلاة النوافل من صلوات الضحى
والأوّابين وما إلى ذلك، وكان يحب الصالحين كثيرًا، رأيتُه يبكى لدى ذكر بعضهم،
وكان يحب ذكرهم، ويحب أن يستمع إلى قصصهم من ألسنة من يحضرون إليه. وكان يحبّ
كثيرًا أستاذه وشيخه الشيخ السيّد حسين أحمد المدنيّ، وأسرته الكريمة الساكنة
بمدينة «ديوبند»
وهذا الحبّ هو الذي دفعه إلى أن يُزَوِّج نجلَه الأستاذ أنوار الرحمن القاسمي
كريمةَ نجل الشيخ المدني الأكبر: الشيخ السيد أسعد المدني رحمه الله (1346-1427هـ
= 1928-2006م).
وقد
كان –
رحمه الله –
إنسانًا كبيرًا في أسمى معاني الإنسانيّة، ورغم أنّه كان لايحمل هويّة العالم
المنصرف إلى الدراسة والخطابة والكتابة، ولكنّه بحلمه وكرمه، وتواضعه وإنكار ذاته،
واحتماله وصبره، وقدرته الموهوبة على الإدارة وتصريف الأمور الجماعيّة والفرديّة،
وزهده وتقواه، وصلاحه العامّ، وخلقه الكبير الذي كان يسع به الناسَ كلَّهم على
اختلاف الميول والتوجهات، كان قليل النظير بل عديمه؛ من ثمّ عاد المحبّون للجامعة
حياري في البحث عمن عسى أن يتأهل ليخلفه بشكل مطلوب في إدارة الجامعة، وإبقائها
على مسيرتها السريعة نحو التقدم والازدهار، وإقناع كل من الطلاب والأساتذة
والمنسوبين بالعمل الموحّد والسعى الموفق من أجل استكمال مابقي من المشاريع
البنائية والتعليمية والتربويّة التي كان يحلم بها الفقيد الغالي.
خلف
رحمه الله بعده نجلاً: وهو الأستاذ أنوار الرحمن القاسمي، وأحفادًا من نجله الأكبر
–
الذي مات منذ سنوات –
ونجله الأصغر، وحفيدات، إلى جانب زوجته التي هي الأخرى طريحة الفراش وإلى جانب أقربائه
الكثيرين.
رحمه الله، وأدخله فسيح جنّاته، وألهم أهله
وذويه الصبر والسلوان، ولاحرمنا أجره ولافتننا بعده. وصلّى الله وسلّم على سيدنا
ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، الذي يزيل الأحزان،
ويفَرِّج الكروب، ويدفع كلَّ نوع من المكروه.
(تحريرًا في
الساعة 4 من مساء يوم الخميس: 16/محرم 1432هـ = 23/ديسمبر 2010م)
نور عالم خليل الأميني
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، محرم – صفر 1432
هـ = ديسمبر 2010م – يناير 2011م ، العدد :1-2 ، السنة : 35